دخلوها وصقيرها حام

الأسطرة في الأغاني السودانية:
“أنا ليهم بجر كلام، دخلوها وصقيرها حام”
والمستمع لهذه الأغنية الحماسية؛ تنتصب أمامه ساحة وغى في تمام وطيسها، فيسمع صليل السيوف ويشتم روائح الموت، بينما تحجب أسراب الجوارح ضوء الشمس، فلا تكاد تفرق بين لون الأرض والدم؛ بينما لا يعدوا الأمر كونه حوار بين طاقم وعمال “بنطون” وصبية يودون عبور النهر بأغنامهم؛ تحول إلى مشادة بين أختهم وطاقم البنطون!
وصاحبة الملحمة الشعرية هذه هي زينب بت بابكر عبد الله ود الشوبلي المعروف ببابكر ود ضحوي أو “الباسل بابكر” كما جاء ذكره في الأغنية الشهيرة؛ وقد عاصرت زينب أوآخر التركية السابقة وجزء من المهدية.
وقد قالت أهزوجتها هذه في إخوتها أولاد بابكر ود ضحوي السبع: الطيب وموسى ، وعبد الدائم وجادين وأبو زيد ومحمد وعامر.
وقد استطاعت الشاعرة أن تصور حادثة “بطان” صغيرة هي من إفتعلتها؛ كأنها معركة حامية الوطيس، تتحلق صقور الجو فوق جثثها، بينما لا يعدو الأمر مجالدة بالسياط لم تقع بالأساس!
يُحكي أن أولاد ود ضحوي كانوا يسدرون بأنعامهم في نشوقهم من الجزيرة بالتحديد منطقة أم مغد حيث المعدية في “الهوي” أي غرب النيل الأزرق إلى شرق “العاديك” حيث مراعي البطانة الوسيعة. وحدث أن تأخر الوقت حينما وصلوا منطقة البنطون، فرفض “النوتية” حملهم ومراحهم إلى الضفة الأخرى؛ فما كان منهم إلا أن تركوا حلالهم عند المعدية ليعودوا في الصباح. عند مشارف القرية استقبلتهم شقيقتهم الكبرى “زينب” وهي امرأة شديدة المراس؛ متسائلة عما حدث، فلما علمت بخبرهم أعطت كل واحد منهم سوطاً من “العنج” وتقدمتهم نحو معدية البنطون في تحدي ربانه وطاقمه أن يجالدوا إخوتها، فإن كانت الغلبة لإخوتها يقوم الطاقم بترحيلهم، وإلا عادوا في الصباح. وأنشدت الأغنية التي سارت بها الركبان وأصبحت معركة أسطورية، بالرغم من أن الضرب و”البطان” لم يحدثا لتدخل العقلاء والسماح لهم بعبور النهر دون أن يقع سوط على ظهر أحد منهم!
ويهمنا هنا بجانب تبيان عبقرية الشاعرة في الوصف والأسطرة؛ التفريق بين مترادفتين، الأولى:
* صل الدرق البصقع
جدري القيح البفقع
* صل الدرق الجدادي
تُكل الجدري البعادي
والثانية:
* قرقر ملا للوسادة
برنو وشال لي مكادة
* قرقر فوق للدرب
ربط الهوي والشرق
*الصورة الأولى:
صل الدرق البصقع: هو سرعة ثعبان الدرق (نوع من الكوبرا معروف) السرعة التي تشابه البرق أو الصاعقة، وهنا التشبيه لسرعة ضرب شقيقها الطيب بطرف السوط وكأنها لدغة ثعبان، والتي أية الضربة تخلف أثراً كالجدري حين ينفتح جرحه.
وصل الدرق الجدادي، هو نوع آخر من الدرق يعيش في الكور والجبال ولونه كدجاج الوادي وهو أشد فتكاً، وشبهت ضرب سوطه كأنه تكل الجدري المعدي، والتكل هو أكبر حبوب وحبون الجدري تجمعاً.
* الصورة الثانية:
قرقر ملا للوسادة شال من برنو لي مكادة: والمقصود التمساح، الذي تمدد في حجرة البحر أو قيفه وشاطئه، ثم جاب البحر وسبح عكس التيار من مناطق البرنو في سنار حتى بلدة مكادة في أثيوبيا.
وقرقر فوق للدرب وربط الهوي والشرق: هنا المقصود الأسد الذي يربط بين ضفتي النيل غرباً وشرقاً.

4 thoughts on “دخلوها وصقيرها حام”

  1. شكراً كتير على بذل القصة وكواليس الأغنية، لكن أعتقد هي (ملحمة شعرية) وليس بأسطورة؟ فالأسطورة أبطالها من الآلهة والملحمة من البشر. زي ما حكيت لينا هنا قصة “الملحمة الشعرية” حقت الصقير الحام، صحيح هي رواية للحدث الواقعي، بطريقة أسطورية فيها كتير محلبية الخيال والأدب بتشبيهات وصور بلاغية، شاعرية..ولا ما كده ؟

  2. عنيت هنا بالأسطرة أي ما هو خيالي، إلباس الحقيقي جلباب الأسطوري.
    هي فعلاً ملحمة كما وصفتها في بداية حديثي
    الغرض -في نفسي طبعاً- تبيان أن المخيلة الشعرية يمكن أن تتجاوز حدود الممكن والمعقول، وهو ما نفتقده في حكاوينا وقصصنا قبل رواياتنا وأفلامنا التي لم تصنع بعد

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Scroll to Top